Mother! – “أرنوفسكي” عن الطبيعة الأم وجدل البشرية!

 

عُرف على السينما إمتلاكها القدرة الأكبر على حكاية القصص وطرح الأفكار بكافة الرؤى المختلفة عكس الفنون الأخرى، كلّ فنان (مخرج) له إمكانية صنع منتج فني بالأسلوب الذي يحب، هذه الفرادة الفنية أنتجت لنا وبشكلٍ مستمر أعمالًا يمكن وصفها بالغريبة كونها تحمل معالجاتها الخاصة ضاربة بعرض الحائط كل الأساليب المعتادة، هذه الأعمال غالبًا ما تقع في المنتصف أثناء تقييمها، حيث لا حلّ وسط في التفاعل معها، إما أن تحبها كاملةً، أو تكرهها بالمقابل. ما يجعل إنطباع المشاهد السينمائي جيدًا حول هذا العمل كونه يرتبط بالمخرج المجنون والفذ “دارين أرنوفسكي”، صاحب الأعمال الشهيرة والناجحة أمثال: (Black Swan, Requiem for a Dream .. وغيرها). عمله Mother! أنتظره الكثيرين من بينهم شخصي المعجب بأعمال أرنوفسكي السابقة، تجاهلت مشاهدة “تريلر” الفيلم كما أفعل غالبًا مستعدا في جمع حواسي كلها من أجله، شاهده مرتين في ظرف يومين متتاليين، وهي من المرّات النادرة التي أقوم فيها بهكذا تصرف.
أكثر ما أُرتبط بتعريف الفيلم بين الجمهور أنه فيلما يحمل كمية هائلة من الألغاز والشفرات -الرموز المعقّدة- التي تتطلب تفكيكا لفهمه، وهذا يعيدني لمقارنة بسيطة كنت قد بنيت معظم رأيي حول العمل بسببها، فالسؤال الأهم: ما قيمة الرموز بالعمل السينمائي؟ سؤال من الممكن له أن يعيدنا لنقطة الصفر بدءًا من إنطلاق هذا النوع من الأعمال الفنية بالسينما، ولكن المفارقة لو قمنا بمقارنة مفهوم الرمز في هذا العمل بعمل المخرج الكبير “ستانلي كوبريك” (أوديسا الفضاء: 2001).. مقارنة بعيدة المنال، عمل “ستانلي” مستمر إلى يومنا هذا، وهو عمل لا يقبل التفسير الواحد، عكس الرمزيات التي تتبناها بعض الأعمال السينمائية والتي يبدو عليها الوضوح، أي فكّها لا يتتطلب إختلاف الرؤى حولها. عمل “أرنوفسكي” هذا لا يتميز بأسلوب الرمزيات الذي قد يعجبني بأعمالٍ كثيرة طُبق فيها بشكلٍ أكثر توسعا، ورمزياته لم تكن إلا المحاولة الوحيدة لطرح الكم الهائل من الأفكار بعملٍ فني.

 

 

سيناريو “أرنوفسكي” له تفسيرا واحد، يختلف مع رؤى الأديان المختلفة، أعتمد فيه على عالمٍ مصغّر وشخصيات قليلة تُحكى من خلالها أفكاره التي تسرد أحداث الخلق من البداية إلى حدث اليوم، حيث ترمز مواد فيلمه -وفقًا لما فهمته- التالي: (المنزل = الجنة).. (الرجل الزوج = الإله).. (الأم الزوجة = الطبيعة).. (الزوج الضيف = أدم).. (الزوجة الضيفة = حواء).. (الأبناء المتخاصمين: قابيل وهابيل).. (الضيوف الناس = البشرية). تبدأ أحداث الفيلم من خلال عرضٍ يتيح لنا التعرف على حياة زوجين يعيشيان بمنزلٍ كبير يعانيان بناءً على تصرفاتها من برود عاطفي إتجاه بعضهما؛ الزوج كاتب شهير غاب عنه الإلهام، والزوجة تعمل في ترميم المنزل وإعادة إحياءه من جديد ومساندة زوجها بشكل مستمر، مُهلة من الزمن لغاية وصول زائرٍ غريب إلى المنزل، يستقبله الزوج بكل سرور مناقضًا مشاعر ورأي الزوجة في التصرّف. في اليوم التالي تأتي زوجة الضيف الغريب لتصبح الزائر رقم إثنين، ونلحظ بكل بساطة علامات القلق على الزوجة (الأم) التي يتضح عليها عدم قبول تواجدهما، عكس الزوج الذي كان مرحبًا كثيرًا بهما، (هذا التصرّف بعيدًا عن رمزية الفيلم فهو ناجح على مستوى النص كون حالة الركود العاطفي تُسبب أحيانًا في قبول الآخر بشكل غير منطقي).. تتوالى الأحداث ليتضح مع الوقت (ما يود أرنوفسكي قوله والتلميح له)، وهذا من خلال رفض الزوجة (الأم) دخول الزوجة (الضيفة) لغرفة زوجها، ولكن إلحاحها تسبب رفقة زوجها في وقوع (جوهرة الزوج الخاصّة) ليتسبب هذا الفعل في طردهما عبر الزوج الذي كان غاضبًا جدًا. (هذا يشير لقصة أدم وحواء حينما طردهما الله من الجنة بسبب الأكل من الشجرة وعدم إطاعتهما له).. إشارة مباشرة من خلالها أتضحت رموز الفيلم -المدوّنة بالأعلى- التي تم محاكاتها عبر الشخصيات. مع إستمرار الأحداث نشهد دخول فردين آخرين بالمنزل وهما (أبناء الزوج والزوجة الضيوف) لينشب فيما بينهما عراكا ينتهي كما إنتهى الصراع المتعارف عليه بكافة الأديان: صراع قابيل وهابيل.

 

 

سيناريو النصف الأول يتضح لنا من خلاله أفكار “أرنوفسكي” التي قد صرّح مرارا أن فيلمه يحاكي (الطبيبعة الأم).. ومن خلال الزوج الكتاب فهو يشير لنصوصه بنصوص الكتب السماوية حيث الزوج هو الإله، وغيرها من التأويلات التي قمت في سردٍ سريع الإشارة إليها بالشق السابق، هذه التراكمات على صعيد (النص) لم تعجبني كونها مباشرة وواضحة، لكن هذا الحكم سُرعان ما تلاشى بدخول النصف الثاني من الفيلم، ليرتفع بذلك رِتم الفيلم وتبدأ هذه الرموز (البسيطة جدًا) في وضوح الغاية منها، فبعد أن رحل الضيوف ورجعت الحياة بالمنزل وبين الزوجين لحالٍ أفضل وأصبحت الزوجة حاملة بطفلها الأول الذي طالما حلما به، تمكّن الزوج من كتابةٍ نص تسبب في حضور كمٍ هائل من المعجبين أمام المنزل، ليستقبلهم مجددا الزوج (خافير بارديم) رافضًا الانصات لزوجته (جينيفر لورانس).. تكدس المنزل بالناس، ومشاهد متتالية تحاول من خلالها الزوجة طردهم ومحاولة تنبيههم المرة تلو الأخرى، لتعم الفوضى فجأة بالمنزل (ويتحول بذلك الفيلم) لمشهدٍ مطول حول تاريخ الحروب والثورات والنزوات التي حدث وأحدثها البشر بالطبيعة (بالأرض/العالم/الحياة)، استوقفني خلالها ترديد بعض الشخصيات لنداءات الثورات العربية: “عيش.. حرية.. عدالة إجتماعية). هذا الجزء من الفيلم هو (اللُب)، وهو أكثر أجزاءه تأثيرًا في شخصي من بين كافة أجزاءه غير المنطقية والتي وجدتها مبالغة جدًا، حيث الهجوم المباشر لما قام به البشر منتهزين فرصة تقبّل ورحمة الإله لهم وبشكلٍ مستمر، تحول الجنة إلى جحيم من خلال استباحتهم لهذه الأرض وكأنها ملكهم الخاص وأن اللهو والخراب فيها أمرا مسموحا له. المنزل ينزف كل ما بدأ البشر في الدخول له.. هدوء بعد العصف الذي سرد فيه بجنون أرنوفسكي واقع البشرية -وإن كان له وعليه- ينتهي بإنجاب الزوجة/الطبيبعة الأم مولودها الجديد تحت أنظار الزوج (في إشارة أخرى أنه الرب الذي لا ينام).. هذا المولود ينتهي به الحال مع البشر إلى الموت، (في إشارة على أن المولود هو المسيح) -هنا الفيلم يأخذ تأويلًا واحدا لديانة ومعتقدٍ واحد عكس ما سبق-.. غضب الأم يؤدي (باستخدامها قداحة الزوج الضيف في إشارة على أن القداحة مسببًا من البشر) إلى إحراق المنزل بكل من فيه.. ينتهي بنا هذا السرد بنصفه الثاني للزوج وهو يحمل الزوجة محترقةً بالكامل طالبًا منها حبها الذي أُختزل في قلب (الزوجة) شارحًا لنا في ختام ذلك سرّ الجوهرة والمضي قدمًا في نفس الحلقة، تلك التي أستئنفت بالزوجة التي شاهدنا تجربتها، والتالية التي إنتهى معها الفيلم.

 

 

سيناريو الفيلم وعناصره وإستعاراته أيضًا فيها ما لها وما عليها، فمعالجتها لم تكن في رأيي مدركة لواقع أن تأثيرها قد يزول بعد المشاهدة، قد تتفاعل معه عين المشاهد باستغرابٍ شديد لا شكّ في أن الحاجة إليه غير ماسّة بتلك الدرجة التي كان واضحا عليها، فما اُختزل في شخص (الزوج=الإله) خاصة بمشهد الختام وضحكته كان بالفعل مستفزًا ليس كونه يعبّر عن رأي مخالف، لكنه ليس تعبيرًا مثقفًا كان له أن يعطي بعدا فنيا آخر للاستعارة، أيضًا شخصية (الأم) التي كانت إنفعالاتها شديدة ومبالغة بعض الشيء. بالمقابل لعب مشهد (أحداث الصراع البشري) دورا إبداعيًا على مستوى الصور والمشاعر، ضربة واحدة بمشهدٍ واحد غابت فيه الواقعية ليجز فيه “أرنوفسكي” كل الكلام الذي رغب في قوله طيلة الفيلم، هذه أفعالكم، هذه مسبباتها وهذه نتائجها. مشاكلي في التفاعل مع الفيلم (خاصةً بالمشاهدة الثانية) وزواله بلحظات تخيّلي التي كانت دائمًا ما ترتبط بالفيلم العظيم والجيد عند الانتهاء من مشاهدته، وهذا قد ينجلي في ثغرات الفيلم التي وجدت فيها مبالغة مثل صراخ شخصية الأم والحوارات (غير القوية) لمعظم تفاصيله، في حين مشاهد أخرى كانت مُتقنة وبقاءها ظلّ يعيدني لمشاهدتها أكثر من مرّة. موازنة لا تُنصف النص ولا تُنسفه، لكنها تضع حسب -نقدي- علامات لا تعبر عن الرضا التام حوله، فهو لم يكن بذاك النص الذي بإمكانه شدّي بعد المُشاهدة ولو لفترة قصيرة.
ميّز العمل غياب الموسيقى التصويرية بشكلٍ كامل، هذا القرار الذي أتخذاه “يوهان وأرنوفسكي” عندما وجدا أن وجود الموسيقى يؤثر على تفاعل المشاهد مع رحلة الأم بالمنزل وبالفيلم أجمع، لنشاهد العمل بأصواتٍ واقعية في المنزل كصوت المياه والأبواب وغيرها، وهذا أضاف جوًّا تماشى مع جدية المشهد بالفيلم والتي أظنها لعبت جزءً من سرقة ذهن المشاهد ذهنيًا وبصريًا. في الجزء الأهم المتعلق بالأداءات التمثيلية، لاقى أداء “خافير بارديم” استحساني بصراحة شديدة، دوره بهذا العمل مميزا مؤكدا بسهله الممتنع موهبته الفذة، ليرافقاه “إيد هاريس/فايفر” بأداءات ثانوية أيضًا جيدة، أما عن “جينيفير لورانس”، أداءها ليس مخيبًا وليس رائعا على حدٍ سواء، فدور الشخصية هو الذي وجدته مبالغًا، في حين أداء لورانس الذي ساعد على وجود تركيبة تمثيلية لم أتفاعل معها بالشكل المطلوب، لم تكن سيئة، وأنا لست ممن ينتقدونها لغرض الانتقاد فحسب، فهي موهوبة، وبمشاهد بسيطة بهذا الفيلم (عرفت بطريقة ما) أن تؤكد ذلك، في واحدة من التجارب المختلفة لها.
يبدو على أرنوفسكي التأثر الواضح بأعمال مخرجين كبار وهذا ما يقوم بالتصريح به على الدوام، لكن ما استوقفني هو أسلوبه في فرض (جزئية أن للفيلم نوعًا من رعب السينما).. مشاهد الفيلم التصويرية بشكلٍ عام (مُبدعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى).. الرحلة التصويرية بالفيلم رائعة، قريبة جدًا من المشاهد ومطابقة لفعل النص وعالمه المصغّر، لكن استخدام مشهد (الرعب) لم يكن موجودا ولهذا المشاهد التي ظهرت بها ملاعبة على مستوى الإثارة النفسية لم تناسب في رأيي وضعية الإثارة النفسية التي قد لعبها النص من دونها بالفعل. في الجانب الآخر، يستمر هذا المخرج المجنون (غريب الأطوار) في فرض أسلوبه السينمائي المُنفرد، موضوعه في هذا الفيلم وإن لاقى اعتراضات هائلة، فهو موضوعا يصعب على أي مخرجٍ سرده بهذه الطريقة، لكن هذا لم يمنعه -وهذا طبيبعي- من السقوط في فخ المقارنات بأعمالٍ مسبقة وجدنا فيها “أرنوفسكي” مولود عبقريٌ آخر سيمكّن السينما بجعلها (أسلوبًا فنيًا متفردًا) على الدوام، في خيبة ظنٍ على مستوى تطلعاتي لهذا الفيلم، متأملًا عودة جديدة أعلم من خلالها ومنذ اللحظة تمكنه من فرض نفسه بالطريقة التي يرغبها كعادته.
تقييمي: 7.5/10

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s

Website Powered by WordPress.com.

Up ↑

%d bloggers like this: