هذا ما أحترمه في الأفلام، صُنع رؤية جديدة، زاوية لم تكن تثير اهتمامنا على الإطلاق، شيئا لا يمكن لغير فنيات السينما فعله، أمرا يبلغ فكرة إلقاء المعلومات وإن كانت مهمة، بل يعمل على الزج بها ضمن سياق قصصي بالغ في عاطفته. هذا الفيلم هادئ، اللقاء فيه حميمي، الزاوية التي يطرحها تتحدث عن ‘فن العمارة’، حول الهندسة المعمارية والمباني التي لم تكن تحظى باهتمامي كثيرا، كنت أراها مجرّد أسقف وألواح وطوب وزجاج لا خطة ولا قصة ولا فن فيها، بهذا الفيلم.. النظرة تتحوّل، هذه المباني المعمارية مهمة، تقدّم بغض النظر عن قصصها وتفاصيلها الفنية غاية لها من الأهمية الكثير. ‘كولمبوس’، هي المدينة التي تتميز بمعماريتها وتشتهر بها في العالم كله، السياح يحضرها لهذا السبب، المباني التي فيها (بواسطة هذا الفيلم) تشعر وكأنها تتحدث، تملك ما يملكه الإنسان من مشاعر وأحاسيس.
الفيلم تدور أحداثه حول رجل كوري يدعى ‘جين’ يزور مدينة كولمبوس بسبب مرض أبيه وإصابته بالغيبوبة، جين يبدو عليه الاستياء بسبب علاقته غير الجيدة مع والده، (والده مصمم ومهندس معماري شهير). هذا وفي الوقت ذاته نتعرف بدايةَ الفيلم على الشابّة ‘كيسي’، تعمل في إحدى مكاتب بالمدينة، تهتم بوالدتها كثيرا بسبب ما كانت تمر به في السابق (أمها كانت مدمنة ميث). يلتقيان (جين وكيسي) لتبدأ فيما بينهما حوارات غاية في اللطافة والدراما، الفيلم وإن كان يدور على رؤى الهندسة المعمارية، فهو يمزجها من خلال حكاية شخصيتيه الرئيسيتين بطريقة جميلة جدًا، وأيضًا عن ‘كولمبوس’ كمدينة هادئة، رياحها والأصوات الخافتة فيها، ‘كيسي’ تقول بأن الناس هنا لا يهتمون كثيرا بتفاصيل مبانيها المتميزة، ونشعر نحن أيضًا عبر قصة ‘كيسي’ وأجواء المعيشة والظروف بأن المدينة تخفي عبر سكانها الكثير.
المخرج ‘كوغونادا’ والسينماتوغرافي ‘إليشا’ أجادا توظيف كلّ تفاصيل هذا العمل (بصريًا وحواريًا)، بما في ذلك أداء الممثلين (John Cho/Haley Lu) الخفيف والمطلوب منهما. كوادر هذا العمل غاية في الجمال، سحرا آخر يضاف إلى جانب المباني ومعمار هذه المدينة، أسلوبا إبداعيا أضفى على الفيلم بعدا بصريا لا يبعد كثيرا عن موضوع شخصياته والحوارات فيما بينهما، سينماتوغرافي دقيق ومُتقن أجزم بأن كل المشاهدين لاحظوه.
من تفاصيل الفيلم الجميلة، قصة ‘كيسي’ وعلاقتها مع والدتها، كيسي تخرجت من الثانوية لكنها لم تتمكن من استكمال دراستها (رغم ذكاءها الشديد) كونها ترى بأن الأهم هو أن تبقى مع والدتها وتهتم بشؤونها، ‘جين’ كان يوبخها لأنها لم تقرر بعد مصير حياتها وبأنها تستحق الأفضل. ‘جين’ أفهمها، (أداء الممثلة هالي مُبدع)، تمارس التدخين بكل حواراتها، تخفي الكثير، الكل يسألها عن حالها ويشعرها بأنها لا تقوم بشيء جيد، هذا هو المؤثر في الموضوع، كلنا نتلقى تقييما لا يعبر إلا عن معيار صاحب التقييم، هذا يؤلمنا، لكن الناس لا يكترثون، يشعرونك بأن كل ما تقوم به (ليس مهما)، ‘جين’ كانت مثالًا لهذه الواقعة (مررت بها كثيرا في حياتي)، لكنها تمكنت مع الوقت باتخاذ ما يفيدها ويفيد الآخرين.
من أفلام الموسم المميزة، أعجبني كثيرا، موضوعه أضاف لي بعدا سأحترمه دائما، صورته وموسيقاه وأجواءه بشكل عام جميلة وساحرة، حوارات شخصياته تشبه الصداقات الحميمية التي لا تخلو من بعض الكوميديا. هناك الكثير من التفاصيل الجيدة فيه، أنصحكم بالمشاهدة.
تقييمي: 8/10
Leave a Reply