لا أعلم حتى الآن السبب الذي جعلني أتجنب في فترات مضت تجربة أن أشاهد فيلما للمخرج الروسي ‘أندريه زفياجنتسيف’، لم أكن أعلم شيئا عن لغته السينمائية والشكل الذي تتخذه، إنطباعي عنه محصورا بعناوين أفلامه المعروفة مثل: The Return، أو Elena وأيضًا Leviathan، وهي أعمال لاقت ترحيبا نقديا ساهم في وضع ‘زفياجنتسيف’ ضمن المخرجين الأوائل دائما. هذه تجربتي الأولى معه، سينما أصيلة ولغة ذكية وصورة جدًا بديعة، كلها موارد تجعلني أثق حتى في تجاربي القادمة معه. فيلمه هذا -حسب اطلاعاتي- تلقى نقدا جيدا من جميع الأوساط ومن مختلف المشاهدين، حصد بذلك واحدة من جوائز مهرجان كانّ القيمة وهي جائزة لجنة التحكيم، التي كان يرأسها المخرج الإسباني ألمودفار.
في هذه اللحظة بالتحديد أستمع لموسيقى الفيلم، وهي طريقة قد لا يعرفها الكثيرون عني، لكنني لا أعرف الكتابة (خاصةً بعاطفة) مع الأفلام التي يربطني بها إعجابٌ شديد، وقد تكون جلّ مراجعاتي مختلفة تماما من حيث الطريقة والمعالجة، هذا لأنني لا أخجل من التعبير عن عاطفتي إتجاه الأفلام العظيمة، الأفلام التي لا أتفاعل معها فحسب، بل تُذهلني، موضوعا وسردا وأداءً، العبقري ‘زفياجنتسيف’ وكأنه يعيد للسينما الروسية أصالتها، لكنها أصالة تتخذ الشكل العصري لتجعله أقرب بكثير من لحظة العالم الآن ومن لحظة مواضيعها.
حكاية Loveless سوداوية، العنوان يشير إلى عبارة منافية للحب، الأمر درامي لكنه ليس كدراما السينما الرخيصة، حيث يسلط الفيلم حكايته حول عائلة صغيرة تتكون من رجل/الزوج، مرأة/الزوجة، طفل/الابن، هذه الشراكة الصغيرة تعاني خللا كبيرا، فالزواج ليس صحيا والعلاقة قد وصلت إلى الطلاق فعليا، وفي أحد الأيام بعد مشاجرة كلامية عنيقة بين الزوجين -يشكلان أداءات شخصيات الفيلم الرئيسية- نلحظ غياب الابن تماما، لتأخذ بذلك الحكاية منعرجا جديدا يترافقان فيه الزوجين المتخاصمين بحثًا عن ابنهما.
نص ومعالجة ‘زفياجنتسيف’ أكبر من منظور الحكاية التي يُبنى الفيلم على أساسها، فالتفاصيل الدخيلة على الأحداث (وما أوسعها) يشكّل في سينماه وغايته رموز أخرى حول العلاقات الانسانية، حول الاهمال وشكل الخيانات، حول الألم واللا حب، وبشكلٍ آخر شكّل فيما سبق صراعات مباشرة مع الحكومة الروسية.. حول الحياة المعاصرة في روسيا.
الأحداث بفيلم ‘زفياجنتسيف’ لا ينتقل من حادثة إلى أخرى بسرعة، نصّه لا يقفز كثيرا، وهذه علامة متميزة جدًا عانت الكثير من النصوص في ممارستها على الشكل الصحيح، فالوضع الذي فيه شخصياته (عديمة المشاعر) يكشفها وبطريقة سلسة لا مبالغة فيها، ومن جهة أخرى، سوداوية الفيلم مُقنعة إلى حدٍ كبير، فحدث ضياع الابن يعطي انبطاعا عن نتيجة الاهمال، والاهمال نتيجة الحب المزور، فعلاقة الزوجين فاشلة ولم تبنى على مشاعر آدمية، (مشهد بكاء الابن خلف باب الحمام يحرّك المشاعر). أيضًا يجب الاشارة إلى الحكايات الدخيلة، فالعلاقات الثانوية التي تربط الشخصيات بشخصيات أخرى تعطي هي الأخرى تلميحا لواقعٍ بائس مكرر، فالزوج ليس بمقدوره التعبير عن حبّه لحبيبته، والزوجة أيضًا لم تستقبل الرّد المناسب من حبيبها حينما أفصحت عن مشاعرها إتجاهه. هذه التفاصيل تشير إلى ما كنت قد ذكرته بالأعلى، وهو ما سيتضح مع ختام الفيلم لنجد المعاملة ذاتها بالعلاقة الأولى يتكرر بالعلاقات الأخرى التي كنا نعتقد بأن الأمل فيها. نظرة سوداوية جدًا ومنطقية إلى حدٍ بعيد، وما ناسبني أيضًا بالنص أن ‘زفياجنتسيف’ له دراية بأن السينما أشبه بالمناظرة، الأمر الذي وجد فيه فرصةً قام ببعض المشاهد (خارجة عن قصّة وحكاية الفيلم) تحاكي واقع تأثير وسائل التواصل على العلاقات الإنسانية، مثالًا على ذلك: (مشهد المرأة التي أعطت رقمها لشخصٍ غريب لا تعرفه وهي في الوقت ذاته على موعدٍ خاصّ). كل هذا وذاك يتضمن في بعض تفاصيله نقدا للحكومة الروسية أيضًا، للجهات الحكومية، وهو الأمر الذي نلحظه أثناء استجواب الأم عندما أعلنت عن ضياع ابنها.
عالم الفيلم ينتهي والأمل فيه ضئيل، هنا تتضح عندي رؤى المخرج ‘زفياجنتسيف’ الظلامية، فيلما ميت، عن واقعٍ يشكّل جزءً بالفعل من حياتنا، رؤية سوداوية درامية حتى أشدّ المتفائلين سيلحظ منطقا بها. أعتقد بأن الفيلم تمكّن بالفعل، نص سينمائي أصيل ورؤية إخراجية معاصرة تملك نظرة بعيدة المدى، أداءات تمثيلية غاية في الروعة وموسيقى من الجيد لك أن تعلم بأن إدمانها لفترة زمنية أمرٌ حتمي. فيلمي المفضّل لغاية الآن بالعام، الأمر الذي يأتي معاكسا لأفلام أعوامٍ مضت كانت شيئا ما أكثر تفاؤلا، هذا يشير وبوضوح لقيمة العمل الفني السينمائي، إلى السينما كقطعة لا تتجزأ من ذواتنا التي تتعرى بواسطتها.
تقييمي: 10/10
Leave a Reply